فلسفة القانون

فلسفة القانون

فلسفة القانون

فلسفة القانون

مقدمة
نعيش تحت هيمنة القانون: منذ الولادة ينبغي تسجيل الطفل في دوائر النفوس، والإسم الذي يحمله الطفل يجب أن يتوافق مع بعض القواعد ، قواعد أخرى تأمر بضرورة إدخاله المدرسة، وعندما نشتري اي شيء أو نأخذ سيارة النقل، يكون هذا إعمالا لعقد ما. نتزوج، تعمل، ونعالج في المشافي طبقا لقانون، مع هذا، ورغم وعينا لهذا الحضور المهيمن للقانون، ولكوننا قادرين على تطبيق أو إنتاج القواعد القانونية، فإننا غالبا عاجزون عن تحديده.
ولكن لماذا يا ترى ينبغي تحديد القانون؟ فالبحث عن تحديد للقانون يرتبط بعملية تفكر في موضوع طبيعة القانون أو جوهره. وهذا البحث ضروري جـدا لعمل القانونيين، نلاحظ غالبـاً أن العاملين في مـجـال الفيزياء ليسوا بحاجة لتحديد الفيزياء، والعاملين في مجال الكيمياء لتـحـديد الكيمياء، فيما العاملون في القانون les juristes لا يسعهم الإفلات من تحديد القانون. وهذا الأمـر يـعـود قـبل أي شيء آخـر إلى إسـتـحـالة تطبيق قاعدة قبل التأكد من أنها فعلا فـاعـدة قـانونيـة ما الفرق بين الأمر الذي يوجهه لنا السارق وذلك الذي يوجهه لنا جابي الضرائب، الإثنان يأمـراننا بإعطائهما الدراهم وفي الحالتين للرفضن عواقب وخيمة، والحال أننا نقول إننا ملزمـون ومكرهون على الخضوع لأوامر السارق، بينما نتحدث عن واجب الخضوع لطلب الجابي، بمعنى آخر، تحدد واجب الخضوع للجابي بما هو واجب قانوني، وفقا لتحديد القانون.
وهذا التحديد ليس فيه أي شيء فلسفي، فالقانون ذاته هو الذي يحدد معايير ما هو قانوني وما هو خرق للقانون، كما في حالة السارق.
يكفي إذا، بما يخص غالبية حاجاتنا العملية، أن تعرف ما هي المعايير المتضمنة في قواعد ، في أي حال، معرفة هذه الأمور لا تعلمنا شيئا عن طبيعة القانون، لا تعرف لماذا تم اعتماد هذه المعايير، ولا إذا كانت هذه القواعد إلزامية فعلاً، وفي حال كونها إلزامية لا تعرف لماذا : هل لأنها صحيحة، لأنها تنبثق عن سلطة سياسية، أو لأنها مرتبطة بعقوبات في حال المخالفة؟
كيف نعرف إذا كانت القـواعـد التي تحـدد مـا هو قانوني هي بذاتها قواعد قانونية، هي جزء من القانون أو شيء آخر؟ وهذا السؤال ليس بذاته سؤال قانوني، بل فلسفي، والقانوني (العامل في القانون أو الممتهن) لا يمسك بأي عنصر من عناصـر الجـواب، وهذه المسألة لا تهم وحسب فلسفة القانون، بل فروعاً أخرى، من مثل الفلسفة الأدبية – إذا اعتبرت هذه الأخيرة أن الإنصياع للقانون أمر جيد”، والتاريخ أو الأنتروبولوجيا لأن هذه الفروع تبحث عما إذا كان مجتمع معين خاضعا أم لا لمنظومة قانونية.
ولكن هذا التساؤل وإن لم يكن قـانونيـاً فإن له أحـيـانـاً مـفـاعـيل على القانون نفسه، يمكن تقديم المثال الآتي المستوحى من حالة واقعية والذي يبدو كأنه الصورة العكسية لأسطورة أنتيغون Antigone . في ألمانيا النازية كانت تعتبر كل التلفظات ضد النظام جرائم يعاقب عليها القانون والذين يسمعونها كانوا ملزمين الإبلاغ عنها للسلطات، بعد إنتهاء الحرب تمت ملاحقة إمرأة وشت بزوجها الذي أوقفته السلطات وحكمت عليه بالإعدام ونفذت العقوبة، فهل يجب محاكمة هذه المرأة؟
الجواب على هذه الأمور مرتبط بتعريف القانون ولقد طرحت المحاكم هذه المسألة بهذا الشكل: يمكن أن نعتبر بداية انه ايا كانت أسباب المراة الواشية والتي لم تكن بالتأكيد مؤيدة للنظام ولا يهمها إحترام القانون،
وايا كان حكمنا الأدبي عليها، هذه المرأة في نهاية الأمر لم تفعل إلا ما كان يطلب منها القانون فعله، ينبغي إذا تبرئتها ،
ولكن يمكن أن نعتبر أن القانون النازي loi narie كان من القذارة ومن المخالفة للمبادئ الجوهرية بحيث لا يستأهل صفة قانون على الإطلاق، وبحيث أن الواشية لم تكن ملزمة بالتالي إحترام هذا القانون، بل كان عليها رفض الخضوع له. لو لم يكن القانون النازي قانوناً، لما حل محل القانون السابق الذي كان يعاقب الوشايات المفرطة بنقلهـا وقائع كاذبة
ليس إلا، في هذه الحالة يجب إذا معاقبة المرأة.
هكذا فإن القاضي سوف يحكم بهذا أو ذاك الإتجاه تبعا للمفهوم الذي يكونه عن طبيعة القانون la nature du droit . يمكنه أن يعتبر أن القانون هو مجمل القواعد القانونية الصادرة عن السلطة السياسية أو فقط تلك التي لا تخرق مثال العدالة، في الحالة الأولى يبريء المرأة، وفي الحالة الثانية يعاقبها ، والحال أن الحل لا يقوم في القانون المرعي الإجراء بل في الخيارات الفلسفية.
إلا ان القانونيين، لدى القيام بعملهم، هم مرتبطون ليس فقط بتحديد القانون، إنما بتحديدات المفهومات concepts الجوهرية المستخدمة في صياغة القواعد، إن مضمون القـواعـد يعبر عن الإعتناقات أو الميول السياسية والأدبية لأصحابها، فالقانون الذي يمنع أو يسمح الصيد، الإجهاض أو الإنتحار يعكس المعتقدات المتعلقة بالحيوانات والحياة وحرية تصرف الإنسان (بحياته، بجسده..). هذه المفهـومـات ليست مـبـاشـرة قانونية لأن الحيوانات والحـيـاة أو الإنتحـار، يمكن أن ينظمها القانون ولكنها تقوم خارج القانون أيضاً، بصورة مستقلة عنه. يعتقد بعض الكتاب أنه يوجد، فوق القوانين، قانون طبيعي يمكن أن يعرفه / يمكن أن يمسك به/ العقل الإنسـانـي وهـو يـحـتـوي على مـبـادئ العـدل التي تحكم هذه المسائل، هذا القانون الطبيعي هو مـوضـوع فلسفة قانون حول مسألة العائلة أو الإجهاض، وفلسفة القانون هذه تحمل بعداً قاعديا dimension
normative بمعنى أنها توعز للمشترع إعتماد قواعد متوافقة مع مبادئ العدل التي تكون قد استنبطتها .
ولكن حتى الذين لا يقتنعون بوجود قانون طبيعي لا يمكنهم إجتناب التفكير في المفـهـومـات التي يسـتـخـدمـهـا المشـتـرع، عندما تتعلق هذه المفهـومـات بمؤسسـات لا توجد إلا في /وبفضل القانون، بعض هذه المفهومات تهم الشكل القانوني كالدستور أو العقد، وأخرى تهم المضمون
كالزواج والملكية، إن القواعد المتعلقة بالعقد وبالملكية هي مختلفة تماماً تبعاً للبلد ولكنها موجودة دوماً، هي تعكس أفكاراً حول طبيعة العقد أو الملكية يقتضي أن يعرفها القانونيون كي يجيدوا تطبيقها .
إن التأكيد على وجود قاعدة قانونية يفترض مسبقاً تحديداً عاماً للقانون، لبنيته، للمفهومات القانونية، ولكن أيضاً يفترض مفهوما عن العلم يتيح التوصل إلى معرفة هذه القاعدة أو صحة التحاليل المنطقية التي تطبق عليها ، وهذه الإفتراضات المسبقة هي دوما غير واعية او هي تؤسس فقط لمعرفة القانون ولإعماله في بلد واحد أو أن هذه الإفتراضات لیست متناسقة بين بعضها ، هكذا، فلسفة القانون هي حاضرة بالضرورة، ولكنها فلسفة قانون ضمنية بقدر ما هي عفوية.
الكلام على فلسفة القانون بصورة عامة جدأ يهدف إلى إطلاق عملية تفكر reflexion منهـجـيـة حـول تحديد القانون، عـلاقـتـه بـالعـدل، بعلم القانون، ببنية المنظومة أو نمط التحليل القانوني المتبع. فلسفة القانون يمكن أن تقدم باشكال عديدة والمؤلفات التي تحمل عنوان “فلسفة القانون
لا يجمع بينها إلا كونها جميعها تقدم راباً عاماً جداً في القانون، بعضها يعرض النظريات، البعض الآخر بعرض المسائل المعالجة، حسنة المقاربة الأولى تكمن في أنها تبرز تماسلك فكر حول جملة من المسائل، لكن سيئتها تكمن في إخفاء تنوع الآراء حول مسألة معينة، أما حسنات وسيئات
المقاربة الثانية فهي معاكسة للأولى، ولكن بما أن الطموح الرئيسي لهذا الكتاب هو إظهار كيف بجري السجال الفلسفي حول القانون فأننا نعتمد المقاربة الثانية، وهذه المقاربة لا ترسم أي طريق معبد لغياب أي لائحة موضوعة مسبقا تحتوي على جميع المسائل التي يجب معالجتها وسوف
نكتفي بالتطرق لأكثرها أهمية. إنها المسائل التي تعرض لتعريف فلسفة القانون وموضوعها (علم القانون) وبنية المنظومة القانونية ونمط التحليل القانوني.

للتحميل اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى